فصل: تفسير الآيات (25- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (25- 37):

قوله تعالى: {وأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِشِمالِهِ فيقول يا ليْتنِي لمْ أُوت كِتابِيهْ (25) ولمْ أدْرِ ما حِسابِيهْ (26) يا ليْتها كانتِ الْقاضِية (27) ما أغْنى عنِّي مالِيهْ (28) هلك عنِّي سُلْطانِيهْ (29) خُذُوهُ فغُلُّوهُ (30) ثُمّ الْجحِيم صلُّوهُ (31) ثُمّ فِي سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعا فاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعظِيمِ (33) ولا يحُضُّ على طعامِ الْمِسْكِينِ (34) فليْس لهُ الْيوْم هاهُنا حمِيمٌ (35) ولا طعامٌ إِلّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يأْكُلُهُ إِلّا الْخاطِئُون (37)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى قسمين: مقبول ومردود، وذكر سبحانه وتعالى المقبول بادئا به تشويقا إلى حاله وتغبيطا بعاقبته وحسن مآله، أتبعه المردود تنفيرا عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال: {وأما من} ولما كان الدال على المساءة الإيتاء على وجه قبيح، لا تعيين المؤتي، قال بانيا للمفعول لذلك وللدلالة على ذل الأخذ وعدم قدرته على الامتناع عن شيء يسوءه: {أوتي كتابه} أي صحيفة أعماله- أعاذنا الله من ذلك {بشماله فيقول} أي لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما يرى من قبائحه التي قدمها، وكل ما يأتي مما يوهم سكتة في ذلك اليوم فمن باب المكابرة والمدافعة بالباطل على ما كان عليه في الدنيا {يا ليتني} تمنيا للمحال، وجرى عن نسق ما مضى في البناء للمفعول الدال على ذله وعدم جبلته فقال: {لم أوت} أي من مؤت ما {كتابيه} أي هذا الذي ذكرني بخبائث أعمالي وعرفني جزاءها {ولم} أي ويا ليتني لم {أدر} ولو حاولت الدراية {ما} أي حقيقة {حسابيه} من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلا لذلك كما كنت في الدنيا.
ولما تمنى هذين الشيئين، استأنف مراده بهما فقال لأنه رأى أن ما يستقبله شر مما كان فيه من البرزخ: {يا ليتها} أي الموتة التي منها {كانت القاضية} أي الباتة الجازمة الملزمة لدوام الموت الخاتمة عليها حتى لا يكون بعدها بعث ولا شيء غير الموت كما كنت أعتقد في الدنيا؛ قال الإمام الرازي: وفي الحديث: «تمنوا الموت» أي إذ ذاك ولم يكن في الدنيا شيء أكره منه عندهم.
ولما كان التمني مفهما لأنه كان له ضد ما تمناه من البعث على ما كانت تخبره به الرسل ومن الحساب الذي هو سر البعث وخالصه، وقد كان يقول: إنه يتخلص منه، على تقدير كونه، بماله وجاهه قال معللا لتمنيه: {ما أغنى} نافيا تأسفا على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم، أو مستفهما استفهام إنكار على نفسه وتوبيخ حيث سولت له ما أثمر له كل سوء وكل محال منازعة للفطرة الأولى المؤيدة بما أخبرت به الرسل حتى أوقعه ذلك التسويل في الهلكة {عني ماليه} أي الذي منعت منه حق الله وتعظمت به على عباده.
وهذا النفي للإغناء سائغ مفهوم على كل من تقريري النفي والاستفهام.
ولما كان المال سبب الوصول إلى السلطان، قال نافيا لما أوصله إليه ماله شارحا لعدم إغنائه، {هلك عني} أي مجاوزا لي حتى كأني لم أكن فيه ساعة قط {سلطانيه} أي تسلطي على الدعاة إلى الله بالشبه الباطلة التي كان يطلق اللسان بها فأساعده عليها مع ظهور بطلانها الملك الذي أوصل إليه المال فعاد لأن ذلك الملك الأعظم هلك والمساعد أبعد مباعد.
ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال، فما يقال؟ أجيب بأنه يقال للزبانية تعذيبا لروحه بالتوبيخ والأمر بالتعذيب على رؤس الأشهاد: {خذوه} أي أيها الزبانية الذين كان يستهين بهم عند سماع ذكرهم.
ولما كان الأخذ دالا على الإهانة الناشئة عن الغضب، سبب عنه قوله: {فغلوه} أي اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه من وراء قفاه إلى ناصيته.
ولما كان الغل لما بعده من العقاب، قال معظما رتبة عقابه في الشدة والهول بالتعبير بأداة التراخي: {ثم الجحيم} أي النار العظمى التي تجمح على من يريد دفاعا وتحجم عنها من رآها لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد {صلوه} أي بالغوا في تصليته إياها وكرروها لغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ولا تصلوه في أول أمره غيرها لأنه كان لا يألو جهدا أن يحرق قلوب النصحاء بأشد ما يقدر عليه من الكلام وغيره، وكان يتعظم على الضعفاء، فناسب أن يصلي أعظم النيران، وعبر أيضا بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها، فقال مؤذنا بعدم الخلاص: {ثم في سلسلة} أي عظيمة جدا لا ما هو دونها.
ولما قدمها دلالة على الاهتمام بها وعلى تخصيصها لشدة مخافتها، عرف بعظيم هولها وشدة فظاعتها ليجتمع المفهوم والمنطوق على تهويلها فقال: {ذرعها} أي في أيّ شيء فرضت من طول أو عرض {سبعون ذراعا} يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة، وأن يكون مبالغة، والذي يدل على أنها للمبالغة ما رواه الترمذي- وقال: إسناده حسن- عن عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رصاصة مثل هذه- وأشار إلى مثل الجمجمة- وأرسلت من السماء إلى الأرض- وهي مسيرة خمسمائة سنة- لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها» وأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال: {فاسلكوه} أي أدخلوه بحث يكون كأنه السلك- أي الحبل- الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه فيصير في غاية الضنك والهوان لا يقدر على حركة أصلا، وهذا تعذيب القالب لأنه أفسد القلب بعدم الإيمان والقالب بعدم الأعمال.
ولما ذكر على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه، فقال بادئا بأعظمها مؤكدا لأن كل كافر حتى المعطل يقر بالله تعالى نوع إقرار ويدعي الإيمان به نوع ادعاء، لأنه لا يقدر على غير ذلك لما له سبحانه من غلبة الظهور وانتشار الضياء والنور: {إنه كان} أي جبلة وطبعا وإن أظهر شيئا يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغنياء {لا يؤمن} أي الآن ولا في مستقبل الزمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى.
ولما كانت عظمة الملك موجبة لزيادة النكال لمن يعانده على قدر علوها، وكان الذي أورث هذا الشقي هذا الخزي هو تعظمه على أمر الله وعباده، أشار إلى أنه لا يستحق العظمة غيره سبحانه فقال: {العظيم} أي الكامل العظم.
ولما بين عناده للملك الأعظم بإفساده القوة العلمية بين ما يوجبه الكفر من احتقاره للضعفاء إفسادا للقوة العملية إعلاما بأنه مكلف بفروع الشريعة كما أنه مكلف بأصولها، وبيانا لأن عناده لمن فوقه لرداءة طبعه لا لعلو همته، فقال معظما لهذا الذنب لجعله في سياق الكفر وبالتعبير بالحض مشيرا به إلى أن فاعل ذلك شديد الاستغراق في حب الدنيا لأنه لا يمنعه من حث غيره على الخير إلا ادخاره لنفسه: {ولا يحض} أي يحمل ويحث {على} بذل {طعام} أو إطعام {المسكين} أي تسهيله بإعانته عليه إن كان موجودا، والسؤال في بذله وما يقوم مقامه إن كان مفقودا، فكيف بالبذل من عنده، فإن ذلك لا يحمل عليه إلا الإيمان لخلوه عن حظ، والتقييد يفهم أنه يحث على خدمة الأكابر الجبابرة ويحب العكوف على أبوابهم والإضافة مع التعبير بالطعام دون الإطعام تشعر بأن الفقراء يملكون كفايتهم من أموال الأغنياء، فدل ذلك على أنه مع كفره هو أشنع صفات الباطن في غاية الشح والقساوة وعدم المروءة للإعراض عن أسباب التمدح وعن التنزه عن سوء القالة وقبيح الذكر، وذلك أشنع الرذائل، فلذلك خصص هذين الأمرين، وكان أبو الدرداء-رضي الله عنه- يحض على طعامهم ويقول: خلعنا نصف السلسة بالإيمان أفلا نخلع الآخر- يعني بالحث على الإطعام، وذمه على الاستهان بالمساكين يفهم الذم على الاستهانة بمن هم دونهم ممن هو أسوأ حالا منهم بطريق الأولى.
ولما وصفه سبحانه وتعالى بأقبح العقائد وأشنع الرذائل، سبب عنهما في مقابلة إفساد القوتين العلمية قوله: {فليس له اليوم} ولما ذكر الزمان المتعقب للبعث، ذكر المكان الكائن فيه وهو الدار الآخرة فقال: {ههنا} أي في مجمع القيامة كله {حميم} أي صديق خالص يحترق له ويحميه من العذاب لأنهم كلهم له أعداء كما أنه هو كان لا يرق على الضعفاء فيما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال.
ولما نفى عنه الجاه لانسلاخه من حزب الملك الولي الودود، وتحيزه إلى حزب الشيطان العدو الجحود، أتبعه المقصود بالمال الذي تنشأ عنه جميع الاستمتاعات ويقصد عنده الاجتماع والأنس بالأصحاب لإخلاده إلى ماله وإعراضه عن عيال الملك لأجل ضعفهم الذي وهبه المال وأمره بمواساتهم فيه فقال: {ولا طعام} ولما كان الاستثناء معيارا للعموم قال: {إلا من غسلين} أي غسالة أهل النار من فيحهم وصديدهم، فعلين من الغسل، ويلزم من هذا الطعام أن يكون تحت غيره ليسيل ماء غسالته إليه.
ولما حصر طعامهم فيما لا يقربه أحد باختياره، حصر من يتناوله معبرا عنهم بالوصف الذي أوجب لهم أكله فقال: {لا يأكله} وفرغ الاستثناء تنبيها على أن المستثنى هو المقصود حتى كأنه لا مستنثى منه فقال: {إلا الخاطئون} أي يأكله المتعمدون للخطايا لا غيرهم، وهو من خطأ الرجل بوزن فرح مهموزا- إذا تعمد الذنب، وأما المخطئ فهو من قصد الخير فلم يصبه بغير تعمد {فليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أي أردتم الصواب فلم تصيبوه، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها، وهو بمنزلة ما كانوا يشحون به من أموالهم التي أبطنوها وادخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِشِمالِهِ فيقول يا ليْتنِي لمْ أُوت كِتابِيهْ (25)}
واعلم أنه تعالى بين أنه لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله خجل منها وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار، فقال: ليتهم عذبوني بالنار، وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة، وهذا ينبهك على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني، وقوله: {ولمْ أدْرِ ما حسابية} أي ولم أدر أي شيء حسابيه، لأنه حاصل ولا طائل له في ذلك الحساب، وإنما كله عليه.
{يا ليْتها كانتِ الْقاضِية (27)}
الضمير في {يا ليتها} إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان الأول: إلى الموتة الأولى، وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة والقاضية القاطعة عن الحياة.
وفيها إشارة إلى الإنتهاء والفراغ، قال تعالى: {فإِذا قُضِيتِ} [الجمعة: 10] ويقال: قضى على فلان، أي مات فالمعنى يا ليت الموتة التي متها كانت القاطعة لأمري، فلم أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه، قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب له الموت، قال الشاعر:
وشر من الموت الذي إن لقيته ** تمنيت منه الموت والموت أعظم

والثاني: أنه عائد إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته فتمناه عندها.
{ما أغْنى عنِّي مالِيهْ (28)}
{ما أغنى} نفي أو استفهام على وجه الإنكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار، ونظيره قوله: {ويأْتِينا فرْدا} [مريم: 80] وقوله: {هلك عنّي سلطانيه} في المراد بلسطانيه وجهان: أحدهما: قال ابن عباس: ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا، وقال مقاتل: ضلت عني حجتي يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك والثاني: ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا، وقيل معناه: إنني إنما كنت أنازع المحقين بسبب الملك والسلطان، فالآن ذهب ذلك الملك وبقي الوبال.
واعلم أنه تعالى ذكر سرور السعداء أولا، ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب، كذا هاهنا ذكر غم الأشقياء وحزنهم، ثم ذكر أحوالهم في الغل والقيد وطعام الغسلين، فأولها أن تقول: خزنة جهنم خذوه فيبتدر إليه مائة ألف ملك، وتجمع يده إلى عنقه، فذاك قوله: {فغُلُّوهُ} وقوله: {ثُمّ الجحيم صلُّوهُ} قال المبرد: أصليته النار إذا أوردته إياها وصليته أيضا كما يقال: أكرمته وكرمته، وقوله: {ثُمّ الجحيم صلُّوهُ} معناه لا تصلوه إلى الجحيم، وهي النار العظمى لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس، ثم في سلسلة وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل، وقوله: {ذرْعُها} معنى الذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد، يقال: ذرع الثوب يذرعه ذرعا إذا قدره بذراعه، وقوله: {سبْعُون ذِراعا} فيه قولان: أحدهما: أنه ليس الغرض التقدير بهذا المقدار بل الوصف بالطول، كما قال: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 80] يريد مرات كثيرة والثاني: أنه مقدر بهذا المقدار ثم قالوا: كل ذراع سبعون باعا وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة، وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو، وقوله: {فاْسْلُكُوهُ} قال المبرد: يقال سلكه في الطريق، وفي القيد وغير ذلك وأسلكته معناه أدخلته ولغة القرآن سلكته قال الله تعالى: {ما سلككُمْ في سقر} [المدثر: 42] وقال: {سلكْناهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} [الشعراء: 200] قال ابن عباس: تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه، وقال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ ثم يجعل في عنقه سائرها، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في تطويل هذه السلسلة؟ الجواب: قال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، وإذا كان الجمع من الناس مقيدين بالسلسلة الواحدة كان العذاب على كل واحد منهم بذلك السبب أشد.
السؤال الثاني: سلك السلسلة فيهم معقول، أما سلكهم في السلسلة فما معناه؟ الجواب: سلكه في السلسلة أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أجزاؤها وهو فيما بينها مزهق مضيق عليه لا يقدر على حركة، وقالوا الفراء: المعنى ثم اسلكوا فيه السلسلة كما يقال: أدخلت رأسي في القلنسوة وأدخلتها في رأسي، ويقال: الخاتم لا يدخل في إصبعي، والإصبع هو الذي يدخل في الخاتم.
السؤال الثالث: لم قال في {سلسلة}... {فاسلكوه}، ولم يقل: فاسلكوه في سلسلة؟ الجواب: المعنى في تقديم السلسلة على السلك هو الذي ذكرناه في تقديم الجحيم على التصلية، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة لأنها أفظع من سائر السلاسل السؤال الرابع: ذكر الأغلال والتصلية بالفاء وذكر السلك في هذه السلسلة بلفظ ثم، فما الفرق؟ الجواب: ليس المراد من كلمة ثم تراخي المدة بل التفاوت في مراتب العذاب.
واعلم أنه تعالى لما شرح هذا العذاب الشديد ذكر سببه فقال: {إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعظِيمِ (33) ولا يحُضُّ على طعامِ الْمِسْكِينِ (34)}
فالأول إشارة إلى فساد حال القوة العاقلة.
والثاني إشارة إلى فساد حال القوة العملية، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {ولا يحُضُّ على طعامِ المسكين} فيه قولان: أحدهما: ولا يحض على بذل طعام المسكين والثاني: أن الطعام هاهنا اسم أقيم مقام الإطعام كما وضع العطاء مقام الإعطاء في قوله:
وبعد عطائك المائة الرتاعا

المسألة الثانية:
قال صاحب الكشاف قوله: {ولا يحُضُّ على طعامِ المسكين} فيه دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بمن يترك الفعلا.
المسألة الثالثة:
دلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة، وهو المراد من قولنا: إنهم مخاطبون بفروع الشرائع، وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي! وقيل: المراد منه منع الكفار وقولهم: {أنُطْعِمُ من لّوْ يشاء الله أطْعمهُ} [يس: 47].
{فليْس لهُ الْيوْم هاهُنا حمِيمٌ (35)}
أي ليس له في الآخرة حميم أي قريب يدفع عنه ويحزن عليه، لأنهم يتحامون ويفرون منه كقوله: {ولا يسْئلُ حمِيمٌ حمِيما} [المعارج: 10] وكقوله: {ما للظالمين مِنْ حمِيمٍ ولا شفِيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18].
{ولا طعامٌ إِلّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين، فقال: لا أدري ما الغسلين.
وقال الكلبي: وهو ماء يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو غسلين فعلين من الغسل.
المسألة الثانية:
الطعام ما هيء للأكل، فلما هيء الصديد ليأكله أهل النار كان طعاما لهم، ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم لهم مقام الطعام فسمى طعاما، كما قال:
تحية بينهم ضرب وجيع

والتحية لا تكون ضربا إلا أنه لما أقيم مقامه جاز أن يسمى به.
ثم إنه تعالى ذكر أن الغسلين أكل من هو؟ فقال: {لا يأْكُلُهُ إِلّا الْخاطِئُون (37)}
الآثمون أصحاب الخطايا وخطئ الرجل إذا تعمد الذنب وهم المشركون، وقرئ {الخاطيون} بإبدال الهمزة ياء والخاطون بطرحها، وعن ابن عباس أنه طعن في هذه القراءة، وقال ما الخاطيون كلنا نخطو إنما هو الخاطئون، ما الصابون، إنما هو الصابئون، ويجوز أن يجاب عنه بأن المراد الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله. اهـ.